لا يعرف مرارة النزوح إلا من اضطر إليه
يمنات
لطف الصراري
كان يمشي على قارعة طريق ترابي في إحدى قرى الحوبان بمحافظة تعز. ما يقوله مظهره أنه رجل ستيني من الجيل الذي غادر قريته في عمر المراهقة إلى عدن وتأثر بنمط الحياة العدنية، وعندما قرر العودة إلى قريته، احتفظ من نمط الحياة تلك بالفوطة المسربلة والكوفية الزنجبارية والشعر المصبوغ بالحناء.
توقف ونظر إلى الخلف، وكان السائق طيباً إذ وفر عليه عناء المشي إلى السوق تحت هجير الشمس برفقة حفيده الذي لا يتجاوز الثامنة من العمر.
بمجرد أن صعد إلى السيارة أدار وجهه إلى الخارج كمن يتجنب أن يتعرف عليه أحد، فيما رفع السائق صوت المسجل درجتين وأعاد تشغيل الأغنية من البداية.
كانت أغنية زراعية لأيوب طارش تبدأ بالبسملة، ويطلب فيها الفلاح من الله العون والرحمة لجميع “الزارعين”.
أمعن الرجل الستيني النظر من نافذة السيارة إلى الخارج، ثم التفت إلى الأمام وانفجر بانفعال غير مفهوم على السائق وطلب منه إطفاء المسجل. أوقف صاحبنا السيارة بشكل مفاجئ حتى ملأت سحب الغبار مقصورة السيارة، ثم التفت بدوره نحو الرجل وأمره بالترجل من سيارته.
لم يبد اعتراضاً على طرده بتلك الطريقة المهينة، بل امتثل بانكسار يواري دمعة توشك على السقوط. قبل أن يترجل من السيارة، أراد تبرير انفعاله كما يبدو، وإزالة اللبس حول تصرفه بصورة غير لائقة.
لم يتلفظ بأي اعتذار لكنه قال: “هذه الأغنية تذكرني بأرضي وبيتي، وفي هذا الموسم تحديداً كنا نردد هذا المهجل ونحن نبذر الحَب استباقاً للمطر”.
ردد المقطع التالي من الأغنية كما لو أنها دعاء مأثور: “وبك استعنّا يا معين … ارحمنا وارحم الزارعين … وياذا الغراب السوادي .. وشتخبّرك من بلادي…”. اختنق صوته ببكاء مغصوص و تهاطلت دموعه كمطر كان متعثراً بكبرياء جريح.
أنزل رجله اليمنى ليغادر السيارة، لكننا أمسكنا به وبحفيده وحاولنا الإعتذار له نيابة عن السائق الذي ظل يحملق فينا وفي الرجل المنكسر بوجه متبلد وعينين ذاهلتين.
“أنا نازح من ثمنتعشر شهر ما قدرت ارجع لبيتي وأرضي، وهذي الأغنية نهجل بها في كل موسم زراعة”. لم يسأله أحد منا عن اسمه ولا أين قريته، واكتفى هو بالقول إنه من قرية الشقب بجبل صبر.
لا يعرف مرارة النزوح إلا من اضطر إليه. ومنذ بدأت هذه الحرب، لم تكتف بدفن آلاف الجثث، بل دفنت كبرياء مئات الآلاف من النازحين وحكمت عليهم بالتفكك والشتات. ومع استمرار القتال وانسداد أفق الأمل بنهاية يمكن انتظارها للعودة إلى ديارهم، يضطر النازحون لتوزيع أفراد أسرهم في أكثر من مكان. لا يوجد مكان واحد يتسع لعائلة نازحة بالكامل.
وما لم يكونوا من أصل قروي أو لديهم الكثير من الأقارب في المناطق الآمنة، فعليهم أن يتجرعوا مهانات وإذلالات لا حصر لها بدون أن يكون لهم حق التعبير عن استيائهم ورفضهم لشروط الحياة المذلة المفروضة عليهم. هم يعرفون ذلك، وغالباً ما يتخلون عن كبريائهم أو حتى كرامتهم ليتجنبوا إذلالات أكبر من التي يواجهونها.
ذلك الرجل الستيني جفت دموعه بسرعة وتمكن من إزالة عبرة البكاء من حلقه في أقل من دقيقة. تعامل مع انفعاله بتلك الطريقة غير اللائقة ومع فجاجة رد السائق بلامبالاة، غير أحداً لا يعرف أين يخبئ النازح قهره اليومي ومرارة تشرده.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا